فصل: فَصْلٌ: (فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.فَصْلٌ: [فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ]:

(فَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا- وَلَوْ أُنْثَى- دُعِيَ إلَيْهِ وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وُجُوبًا) رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ هَلْ كَانَ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ قَالَ عُمَرُ: فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَأَسْقَيْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ أَوْ يُرَاجِعُ اللَّهَ؟ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الِاسْتِتَابَةُ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَأَحَادِيثُ الْأَمْرِ بِقَتْلِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ (وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ) مُدَّةَ الِاسْتِتَابَةِ (وَيُحْبَسَ) لِقَوْلِ عُمَرَ فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ، وَلِئَلَّا يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَيَنْبَغِي أَنْ تُكَرَّرَ دِعَايَتُهُ، لَعَلَّهُ يُرَاجِعُ دِينَهُ (فَإِنْ تَابَ لَمْ يُعَزَّرْ) وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةِ الِاسْتِتَابَةِ لِأَنَّ فِيهِ تَنْفِيرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ (وَإِنْ أَصَرَّ) عَلَى رِدَّتِهِ (قُتِلَ بِالسَّيْفِ، وَلَا يُحْرَقُ بِالنَّارِ) لِحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» وَحَدِيث: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» يَعْنِي النَّارَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد. (وَلَا يُقْتَلُ رَسُولُ كُفَّارٍ مُرْتَدٌّ بِدَلِيلِ رَسُولَيْ مُسَيْلِمَةَ) الْكَذَّابِ حَارَبَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقُتِلَ عَلَى يَدِ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ، وَكَانَ وَحْشِيٌّ يَقُولُ: قَتَلْت خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ-؛ أَيْ: جَاهِلِيَّتِهِ- وَشَرَّهَا فِي الْإِسْلَامِ الْكَذَّابَ مُسَيْلِمَةَ بِكَسْرِ اللَّامِ،- وَهُمَا ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أَثَالٍ جَاءَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْتُلْهُمَا. (وَلَا يَقْتُلُ الْمُرْتَدَّ إلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ) حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَكَانَ إلَى الْإِمَامِ كَرَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ لِكُفْرِهِ لَا حَدًّا (فَإِنْ قَتَلَهُ)؛ أَيْ: الْمُرْتَدَّ (غَيْرُهُمَا)؛ أَيْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ (بِلَا إذْنٍ) مِنْ أَحَدِهِمَا (أَسَاءَ وَعُزِّرَ) لِافْتِئَاتِهِ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ. (وَلَا ضَمَانَ) بِقَتْلِ مُرْتَدٍّ (وَلَوْ كَانَ) قَتْلُهُ (قَبْلَ اسْتِتَابَتِهِ)؛ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ، وَرِدَّتُهُ أَبَاحَتْ دَمَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ كَمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ بَعْدَهَا (أَوْ) كَانَ الْمَقْتُولُ (مُمَيِّزًا) إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ الضَّمَانُ بِدَلِيلِ نِسَاءِ حَرْبٍ وَذُرِّيَّتِهِمْ (إلَّا أَنْ يَلْحَقَ) الْمُرْتَدُّ (بِدَارِ حَرْبٍ ف) يَجُوزُ (لِكُلِّ أَحَدٍ قَتْلُهُ) بِلَا اسْتِتَابَةٍ (وَأَخْذُ مَا مَعَهُ) مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا، وَمَا تَرَكَهُ بِدَارِنَا مَعْصُومٌ نَصَّ عَلَيْهِ، وَالطِّفْلُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونُ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِنَوْمٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ مُبَاحٍ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ وَلَا إسْلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ، فَإِنْ ارْتَدَّ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يُقْتَلْ فِي حَالِ جُنُونِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ أَفَاقَ اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. (وَمَنْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ)؛ أَيْ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُفْرَهُ كَدَعْوَاهُ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَمَنْ أَتَى عَرَّافًا) وَهُوَ الَّذِي يَحْدُسُ وَيَتَخَرَّصُ (فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ) وَتَأْكِيدٌ (لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ)؛ أَيْ: وَقِيلَ (كُفْرُ نِعْمَةٍ أَوْ قَارَبَ الْكُفْرَ أَوْ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ) نَقَلَهُ حَنْبَلٌ. وَعَنْهُ يَجِبُ الْوَقْفُ وَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْ الْمِلَّةِ (وَنَصَّ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ دُونَ بَعْضٍ) وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»؛ أَيْ: جَحَدَ تَصْدِيقَهُ بِكَذِبِهِمْ؛ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى هَذَا إذَا اعْتَقَدَ تَصْدِيقَهُمْ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِتَكْذِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرًا حَقِيقَةً انْتَهَى.
(وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ إطْلَاقِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا تُخْرِجُ عَنْ الْمِلَّةِ) وَأَنْكَرَ الْقَاضِي جَوَازَ إطْلَاقِ اسْمِ كُفْرِ النِّعْمَةِ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ حَنْبَلٍ، وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّى الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ النُّصُوصِ تَوَرُّعًا، وَيَمُرُّ بِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تُخْرِجُ عَنْ الْمِلَّةِ. (وَيَصِحُّ إسْلَامُ مُمَيِّزٍ) ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (عَقَلَهُ)؛ أَيْ: الْإِسْلَامَ؛ بِأَنْ عَلِمَ أَنْ اللَّهَ تَعَالَى رَبُّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً؛ لِإِسْلَامِ عَلِيٍّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، وَعُدَّ ذَلِكَ مِنْ مَنَاقِبِهِ وَسَبْقِهِ، وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا صَبِيًّا مَا بَلَغْت أَوَانَ حُلُمِي وَيُقَالُ: إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الصِّبْيَانِ، وَمِنْ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنْ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنْ الْعَبِيدِ بِلَالٌ. وَقَالَ عُرْوَةُ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَهُمَا ابْنَا ثَمَانِ سِنِينَ. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ». وَالصَّبِيُّ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَصَحَّتْ مِنْ الصَّبِيِّ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ دَعَا إلَى دَارِ السَّلَامِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهَا الْإِسْلَامَ؛ فَلَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ وَسُلُوكِ طَرِيقِهَا. لَا يُقَالُ الْإِسْلَامُ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي مَالِهِ، وَنَفَقَةَ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ، وَحِرْمَانَ مِيرَاثِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ، وَفَسْخَ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ نَفْعٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ مُحْصِنَةٌ لِلْمَالِ، وَالْمِيرَاثُ وَالنَّفَقَةُ أَمْرٌ مُتَوَهَّمٌ، وَذَلِكَ مَجْبُورٌ بِحُصُولِ الْمِيرَاثِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَسُقُوطِ نَفَقَةِ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إنَّ هَذَا الضَّرَرَ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. (وَتَصِحُّ رِدَّتُهُ)؛ أَيْ: الْمُمَيِّزِ (فَإِنْ أَسْلَمَ) وَهُوَ يَعْقِلُهُ (حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُفَّارٍ) صَوْنًا لَهُ؛ لِضَعْفِ عَقْلِهِ فَرُبَّمَا أَفْسَدُوهُ (فَإِنْ قَالَ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَمْ أُرِدْ مَا قُلْت فَكَمَا لَوْ ارْتَدَّ)؛ أَيْ: لَمْ يَبْطُلْ إسْلَامُهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَكُونُ كَالْبَالِغِ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ. (وَلَا يُقْتَلُ هُوَ)؛ أَيْ: الْمُمَيِّزُ حَيْثُ ارْتَدَّ (وَلَا سَكْرَانُ إنْ ارْتَدَّ حَتَّى يُسْتَتَابَا)؛ أَيْ: الصَّغِيرُ (بَعْدَ بُلُوغِهِ وَ) السَّكْرَانُ (بَعْدَ صَحْوِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِأَنَّ الْبُلُوغَ وَالصَّحْوَ أَوَّلُ زَمَنٍ صَارَا فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ حَتَّى يَحْتَلِمَ لِلْخَبَرِ، وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَلِأَنَّ الْحَدَّ شُرِعَ لِلزَّجْرِ، وَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ فِي حَالِ سُكْرِهِ. (وَإِنْ مَاتَ) مَنْ ارْتَدَّ وَهُوَ سَكْرَانُ (فِي سُكْرٍ)؛ أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَصْحُوَ مَاتَ كَافِرًا؛ لِمَوْتِهِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ، فَلَا يَرِثُهُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ، وَلَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ مَعَنَا (أَوْ) مَاتَ مُمَيِّزٌ ارْتَدَّ (قَبْلَ بُلُوغٍ) وَقَبْلَ تَوْبَتِهِ (مَاتَ كَافِرًا) لِمَوْتِهِ فِي الرِّدَّةِ. (وَإِنْ أَسْلَمَ) السَّكْرَانُ وَلَوْ أَصْلِيًّا (فِي حَالِ سُكْرِهِ)، صَحَّ إسْلَامُهُ، ثُمَّ يُسْأَلُ بَعْدَ صَحْوِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إسْلَامِهِ حَالَ سُكْرِهِ، فَيَقْضِي الصَّلَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَفَرَ فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ حِينِ كُفْرِهِ بَعْدَ صَحْوِهِ فَيُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. (وَيَتَّجِهُ احْتِمَالٌ) قَوِيٌّ مَحِلَّ صِحَّةِ إسْلَامِهِ إنْ ارْتَدَّ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَا إنْ حَصَلَتْ مِنْهُ الرِّدَّةُ فِي حَالِ عَقْلِهِ ثُمَّ سَكِرَ بِشُرْبِهِ مُحَرَّمًا عَمْدًا؛ فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ حَتَّى يَصْحُوَ لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكْمُلْ عَقْلُهُ وَلَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ إذَا أَسْلَمَ فِي سُكْرِهِ؛ فَيَصِحُّ مِنْهُ، وَيُؤْمَرُ بَعْدَ صَحْوِهِ بِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَا تُقْبَلُ فِي) أَحْكَامِ (الدُّنْيَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ) بِحَيْثُ يُتْرَكُ قَتْلُهُمْ وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ (تَوْبَةُ زِنْدِيقٍ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} وَالزِّنْدِيقُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ رُجُوعُهُ وَتَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِي الْكُفْرَ عَنْ نَفْسِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَلْبُهُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَكُونُ لِمَا قَالَهُ حُكْمٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَدْفِعُ الْقَتْلَ بِإِظْهَارِ التَّوْبَةِ فِي ذَلِكَ. وَالْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ أَنَّ الزِّنْدِيقَ هُوَ الَّذِي لَا يَتَمَسَّكُ بِشَرِيعَةٍ، وَيَقُولُ بِدَوَامِ الدَّهْرِ. وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِمْ: مُلْحِدٌ؛ أَيْ: طَاعِنٌ فِي الْأَدْيَانِ. (وَلَا) تُقْبَلُ فِي الدُّنْيَا تَوْبَةُ (مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (وَيَتَّجِهُ أَقَلُّهُ)؛ أَيْ: أَقَلُّ مَا يَثْبُتُ بِهِ تَكْرَارُ الِارْتِدَادِ (ثَلَاثًا)؛ أَيْ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (ك) ثُبُوتِ (عَادَةِ حَائِضٍ) بِتَكْرَارِ ثَلَاثٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} وَالِازْدِيَادُ يَقْتَضِي كُفْرًا مُتَجَدِّدًا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ رِدَّتِهِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (أَوْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرِيحًا)؛ أَيْ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؛ لِعِظَمِ ذَنْبِهِ جِدًّا، فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ، (أَوْ) سَبَّ (رَسُولًا أَوْ مَلِكًا لَهُ)؛ أَيْ: لِلَّهِ تَعَالَى: (أَوْ تَنَقَّصَهُ)؛ أَيْ: اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ أَوْ وَاحِدًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ؛ فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِاسْتِخْفَافِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (أَوْ)؛ أَيْ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ سَاحِرٍ (كَفَرَ بِسِحْرِهِ) كَاَلَّذِي يَرْكَبُ الْمِكْنَسَةَ فَتَسِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ؛ لِمَا رَوَى جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» رَوَاه الدَّارَقُطْنِيّ، فَسَمَّاهُ حَدًّا، وَالْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى إخْلَاصِهِ فِي تَوْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ السِّحْرَ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ، فَيَكُونُ إظْهَارُهُ لِلْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ. (وَكَالْحُلُولِيَّةِ) وَالْمُبَاحِيَّةِ، وَكَمَنْ يُفَضِّلُ مَتْبُوعَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالزَّاعِمِ أَنَّهُ إذَا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّحْقِيقُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَارِفَ الْمُحَقِّقَ يَجُوزُ لَهُ التَّدَيُّنُ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ الْمَارِقِينَ مِنْ الدِّينِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ فِي الظَّاهِرِ (وَيُقْتَلُونَ بِكُلِّ حَالٍ) كَالْمُنَافِقِينَ وَأَوْلَى (وَمَنْ صَدَقَ مِنْهُمْ فِي تَوْبَتِهِ) قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ بَاطِنًا (وَنَفَعَتْهُ فِي الْآخِرَةِ) (وَمَنْ كَفَرَ بِبِدْعَةٍ مِنْ الْبِدَعِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَلَوْ كَانَ دَاعِيَةً إلَى بِدْعَتِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ) وَمَنْ أَظْهَر الْخَيْرَ وَأَبْطَنَ الْفِسْقَ فَهُوَ كَزِنْدِيقٍ فِي تَوْبَتِهِ لِمُؤَاخَذَتِهِ بِالْبَاطِنِ فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ظَاهِرًا لِمَا تَقَدَّمَ. (وَيَتَّجِهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ)؛ أَيْ: بِإِظْهَارِ الْخَيْرِ وَإِبْطَانِ الْفِسْقِ، لِأَنَّهُ كَالْمُنَافِقِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
تَتِمَّةٌ:
وَتُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ لِحَدِيثِ «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» فَلَوْ اُقْتُصَّ مِنْهُ وَعُفِيَ عَنْهُ فَهَلْ يُطَالِبُهُ الْمَقْتُولُ فِي الْآخِرَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ. حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَقٌّ لِلْمَقْتُولِ، وَحَقٌّ لِلْوَلِيِّ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْقَاتِلُ نَفْسَهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا إلَى الْوَلِيِّ نِدَامًا عَلَى مَا فَعَلَ، وَخَوْفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْبَةً نَصُوحًا؛ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ، وَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ الصُّلْحِ أَوْ الْعَفْوِ، وَبَقِيَ حَقُّ الْمَقْتُولِ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ عَنْ عَبْدِهِ التَّائِبِ، وَيُصْلِحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجِنَايَاتِ.

.فَصْلٌ: [تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ]:

(وَتَوْبَةُ مُرْتَدٍّ) إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ (وَ) تَوْبَةُ (كُلِّ كَافِرٍ) مِنْ كِتَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ (إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ)؛ أَيْ: قَوْلُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَنِيسَةَ فَإِذَا؛ بِيَهُودِيٍّ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ التَّوْرَاةَ، فَقَرَأَ حَتَّى أَتَى عَلَى صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ صِفَتُك وَصِفَةُ أُمَّتِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: لَوْ أَخَاكُمْ» رَوَاه أَحْمَدُ. وَعَنْ أَبِي صَخْرٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: «حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ الْأَعْرَابِ قَالَ جَلَبْت حَلُوبَةً إلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغْت مِنْ بَيْعَتِي قُلْت: لَأَلْقِيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَلَأَسْمَعَنَّ مِنْهُ، فَلَقِيتُهُ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ، فَتَبِعْتُهُمْ فِي أَقْفَائِهِمْ حَتَّى أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ نَاشِرًا التَّوْرَاةَ يَقْرَأهَا يُعَزِّي نَفْسَهُ عَنْ ابْنٍ لَهُ فِي الْمَوْتِ كَأَحْسَنِ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلِهَا؛ فَقَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِك ذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي؟ فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا، أَيْ لَا قَالَ: فَقَالَ ابْنُهُ إي وَاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَك وَمَخْرَجَك، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا الْيَهُودَ عَنْ أَخِيكُمْ، ثُمَّ وَلِيَ كَفَنَهُ وَدَفْنَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، فَجَعَلَهُ أَخًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَوَلِيَ كَفَنَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِصْمَةَ ثَبَتَتْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا كَالْمُسْلِمِ، فَإِذَا أَتَى الْكَافِرُ وَالْمُرْتَدُّ بِهِمَا ثَبَتَ إسْلَامُهُ، وَانْتَفَى كُفْرُهُ وَرِدَّتُهُ، وَيَكْفِي ذَلِكَ الْقَوْلُ لِعَدَمِ زِيَادَةِ النَّصِّ عَلَيْهِ وَالْحَلُوبَةُ: الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ فَصَاعِدًا. (وَيَتَّجِهُ أَوْ) إتْيَانُهُ (بِصَلَاةِ رَكْعَةٍ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا» الْخَبَرَ، لِأَنَّهَا رُكْنٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْإِسْلَامُ؛ فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ كَالشَّهَادَتَيْنِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ: وَلَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَأْتِيَ بِصَلَاةٍ تَتَمَيَّزُ عَنْ صَلَاةِ الْكُهَّانِ، وَلَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ. وَيَتَّجِهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَرْتِيبٌ لِلشَّهَادَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، بَلْ لَوْ شَهِدَ بِالرِّسَالَةِ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ تَلْزَمُ (مُوَالَاةٌ فِيهِمَا) أَيْ؛ الشَّهَادَتَيْنِ بَلْ لَوْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا ثُمَّ سَكَتَ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ؛ ثَبَتَ إسْلَامُهُ وَهُوَ مُتَّجِهٌ (مَعَ إقْرَارِ مُرْتَدٍّ جَاحِدٍ لِغَرَضٍ أَوْ) جَاحِدِ (تَحْلِيلٍ أَوْ) جَاحِدِ (تَحْرِيمٍ أَوْ) جَاحِدِ (نَبِيٍّ أَوْ) جَاحِدِ (كِتَابٍ) مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى (أَوْ) جَاحِدِ (رِسَالَةِ نَبِيِّنَا) مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إلَى غَيْرِ الْعَرَبِ بِمَا جَحَدَهُ) مِنْ ذَلِكَ؛ (وَإِلَّا) يُقِرُّ بِمَا جَحَدَهُ (لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ)، لِأَنَّ مَنْ جَحَدَ شَيْئًا يَكْفُرُ بِجُحُودِهِ لَا يُكْتَفَى مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَضَمَّنَانِ الْإِقْرَارَ بِمَا جَحَدَهُ؛ فَكُفْرُهُ بَاقٍ؛ فَلَا بُدَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ جَحْدِهِ، لِأَنَّهُ كَذَبَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا اعْتَقَدَهُ مِنْ الْجَحْدِ، فَلَا بُدَّ فِي إسْلَامِهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِمَا جَحَدَهُ (أَوْ قَوْلُهُ أَنَا مُسْلِمٌ) يَعْنِي أَنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ وَكُلِّ كَافِرٍ إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ قَوْلُهُ أَنَا مُسْلِمٌ وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِهِمَا لِأَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ، بِمَا تَضَمَّنَ الشَّهَادَتَيْنِ كَانَ مُخْبِرًا بِهِمَا. وَعَنْ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت لَوْ لَقِيت رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إحْدَى يَدِي بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْت أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا قَالَ: لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْته، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَهَا» وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنِّي مُسْلِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كُنْت قُلْت وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ» رَوَاهمَا مُسْلِمٌ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا فِي الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ أَوْ مَنْ جَحَدَ الْوَحْدَانِيَّةَ، أَمَّا مَنْ كَفَرَ بِجَحْدِ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ أَوْ فَرِيضَةٍ وَنَحْوِ هَذَا فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَافِرٌ. (وَلَا يُغْنِي قَوْلُهُ) أَيْ: الْكَافِرِ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ شَهَادَةِ التَّوْحِيدِ) أَيْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ (وَلَوْ مِنْ مُقِرٍّ بِهِ)؛ أَيْ: التَّوْحِيدِ كَيَهُودِيٍّ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَا تَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ كَعَكْسِهِ، فَلَا يَكْفِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ الشَّهَادَتَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ. (وَقَوْلُ مَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِرِدَّةٍ: بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْ قَوْلُهُ أَنَا مُسْلِمٌ: تَوْبَةٌ) كَمَا لَوْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ ارْتَدَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ (وَإِنْ كَتَبَ كَافِرٌ الشَّهَادَتَيْنِ) بِيَدِهِ (وَيَتَّجِهُ) اعْتِبَارُ كِتَابَتِهِ الشَّهَادَتَيْنِ (اسْتِقْلَالًا) فِي صِحَّةِ عَقْلِهِ وَثَبَاتِ فَهْمِهِ (لَا) إنْ كَتَبَهُمَا (تَبَعًا) كَمَا لَوْ كَانَ نَسَّاخًا فَكَتَبَهُمَا ذُهُولًا مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ (نَسْخِ كِتَابٍ هُمَا)؛ أَيْ: الشَّهَادَتَانِ (فِيهِ)؛ أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ؛ فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَمَا لَوْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْتَأْمَنٌ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ: لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا، وَيَأْتِي، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (صَارَ مُسْلِمًا) لِأَنَّ الْخَطَّ كَاللَّفْظِ (كَنَاطِقٍ بِهِمَا)؛ أَيْ: الشَّهَادَتَيْنِ (وَكَذَلِكَ قَائِلٍ: أَسْلَمْت أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ أَنَا مُؤْمِنٌ) صَارَ مُسْلِمًا بِذَلِكَ أَوْ إنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ عَادَ مَنْ تَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ كَتَبَهُمَا أَوْ تَلَفَّظَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا (وَقَالَ لَمْ أُرِدْ الْإِسْلَامَ وَلَمْ أَعْتَقِدْهُ)؛ أَيْ: الْإِسْلَامَ (أُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ) وَلَا يُخَلَّى. نَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ فِي الْيَهُودِيِّ إنْ قَالَ: قَدْ أَسْلَمْت أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ يُجْبَرُ عَلَيْهِ قَدْ عَلِمَ مَا يُرَادُ مِنْهُ انْتَهَى.
(وَإِنْ قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ وَلَا أَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمَا) لِحَدِيثِ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ». (وَمَنْ) (شُهِدَ عَلَيْهِ بِرِدَّةٍ وَلَوْ) كَانَتْ الشَّهَادَةُ أَنْ رِدَّتَهُ (بِجَحْدِ) تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ (فَأَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ) (فَهُوَ مُسْلِمٌ) إذَا لَمْ يُنْكِرْ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّدَّةِ وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يَكْشِفْ عَنْ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ مَعَ ثُبُوتِ إسْلَامِهِ إلَى الْكَشْفِ عَنْ صِحَّةِ رِدَّتِهِ. (وَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ بِمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ) مِنْ الرِّدَّةِ؛ بِصِحَّةِ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ مُسْلِمٍ وَمُرْتَدٍّ (بِخِلَافِ تَوْبَةٍ مِنْ بِدْعَةٍ؛ فَيُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ بِهَا) لِأَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ لَا يَعْتَقِدُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، (وَيَكْفِي جَحْدُهُ) أَيْ: الْمُرْتَدِّ (لِرِدَّةٍ) أَقَرَّ بِهَا كَرُجُوعٍ عَنْ (إقْرَارٍ) بِحَدٍّ أَوْ صَوَابِهِ لَا أَنْ (شُهِدَ عَلَيْهِ بِهَا)؛ أَيْ: الرِّدَّةِ؛ أَيْ: فَلَا يَكْفِي جُحُودُهُ لِرِدَّتِهِ بَعْدَ شَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِهَا، بَلْ يُجَدِّدُ إسْلَامَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا يَتَضَمَّنُهَا وَيُسْتَتَابَ إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ الْمَشْهُودُ بِهَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنْهَا، وَإِلَّا قُتِلَ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ جَحْدَ الرِّدَّةِ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ فَلَا يُقْبَلُ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى (وَمَنْ شَهِدَ اثْنَانِ بِكُفْرِهِ) وَلَمْ يُذْكَرْ كَيْفِيَّتُهُ (فَادَّعَى الْإِكْرَاهَ) عَلَى مَا قَالَهُ مَثَلًا (قُبِلَ) ذَلِكَ مِنْهُ (بِقَرِينَةٍ) دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ كَحَبْسٍ وَقَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ، وَلَا يُكَلَّفُ مَعَ ذَلِكَ بَيِّنَةً، وَإِلَّا تَكُنْ قَرِينَةً فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
(وَ) لَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نَطَقَ (بِكَلِمَةِ كُفْرٍ) كَقَوْلِهِ هُوَ كَافِرٌ أَوْ يَهُودِيٌّ (فَادَّعَاهُ)؛ أَيْ: الْإِكْرَاهَ عَلَيْهَا (قُبِلَ قَوْلُهُ مُطْلَقًا) أَيْ: مَعَ قَرِينَةٍ وَبِدُونِهَا؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ، وَلَمْ يَصِرْ كَافِرًا بِإِتْيَانِهِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. (وَإِنْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ) أَوْ مُسْتَأْمَنٌ (عَلَى إسْلَامٍ) فَأَقَرَّ بِهِ (لَمْ يَصِحَّ) إسْلَامُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُهُ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا؛ مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى دِينِ الْكُفَّارِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ كَالْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ} وَإِنْ قَصَدَ الْإِسْلَامَ لَا دَفْعَ الْإِكْرَاهِ أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَثُبُوتِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ فَمُسَلَّمٌ.
(وَ) مَنْ قَالَ لِكَافِرٍ (أَسْلِمْ وَخُذْ مِنِّي أَلْفًا وَنَحْوَهُ) كَأَسْلَم وَخُذْ مِنِّي فَرَسًا أَوْ بَعِيرًا (فَأَسْلَمَ فَلَمْ يُعْطِهِ) مَا وَعَدَهُ (فَأَبَى الْإِسْلَامَ؛ قُتِلَ) بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَعِدْهُ (وَيَنْبَغِي) لِمَنْ وَعَدَ (أَنْ يَفِيَ) لَهُ بِمَا وَعَدَهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَخَلْفُ الْوَعْدِ مِنْ آيَاتِ النِّفَاقِ.
قَالَ الْخَطَّابِيِّ: «وَلَمْ يُشَارِطْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤَلَّفَةَ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا فَيُعْطِيَهُمْ جَمَلًا عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمْ عَطَايَا بِأَنَّهُ يَتَأَلَّفُهُمْ». (وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ) الصَّلَاةِ (الْخَمْسِ) كَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى صَلَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ (قُبِلَ مِنْهُ) الْإِسْلَامُ تَرْغِيبًا لَهُ فِيهِ (وَأُمِرَ بِالْخَمْسِ) كُلِّهَا كَغَيْرِهِ. (وَإِذَا مَاتَ مُرْتَدًّا فَأَقَامَ وَارِثُهُ) الْمُسْلِمُ (بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَهَا)؛ أَيْ: رِدَّتِهِ (حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِالصَّلَاةِ وَأُعْطِيَ حَقَّهُ مِنْ تَرِكَتِهِ)؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا». الْخَبَرَ، وَسَوَاءٌ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ مُنْفَرِدًا فِي دَارِ إسْلَامٍ أَوْ حَرْبٍ، وَ(لَا) يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ (بِصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ) فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَنَعَهُمْ بِقَوْلِهِ: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ» وَالزَّكَاةُ صَدَقَةٌ، وَهُمْ يَتَصَدَّقُونَ وَقَدْ فَرَضَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْ الزَّكَاةِ مَثَلًا مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَصِيرُوا بِذَلِكَ مُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ صِيَامٌ، وَلِأَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ أَفْعَالًا وَإِنَّمَا هُوَ إمْسَاكٌ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ يَتَّفِقُ هَذَا مِنْ الْكَافِرِ كَاتِّفَاقِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَلَا عِبْرَةَ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا أَفْعَالٌ تَتَمَيَّزُ عَنْ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ، وَيَخْتَصُّ بِهَا عَنْ صَلَاةِ الْكُفَّارِ مِنْ اسْتِقْبَالِ قِبْلَتِنَا وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي صَلَاتِهِمْ. (وَلَا يَبْطُلُ إحْصَانُ مُرْتَدٍّ) بِرِدَّتِهِ، فَإِذَا أُحْصِنَ فِي إسْلَامِهِ ثُمَّ زَنَى فِي إسْلَامِهِ وَرِدَّتِهِ؛ يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّجْمُ لَوْ تَابَ، وَكَذَا إحْصَانُ قَذْفٍ؛ فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ بِرِدَّتِهِ بَعْدَ طَلَبٍ. (وَلَا) تَبْطُلُ (عِبَادَةٌ فَعَلَهَا) مُرْتَدٌّ (قَبْلَ رِدَّتِهِ وَ) لَا صُحْبَتُهُ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إذَا تَابَ) مِنْهَا لِأَنَّهُ فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ (فَلَا يُعِيدُ الْحَجَّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}. وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إنْ مَاتَ مُرْتَدًّا بَطُلَتْ عِبَادَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا.

.فَصْلٌ: [مَنْ ارْتَدَّ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ مَالِهِ]:

(وَمَنْ ارْتَدَّ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ) عَنْ مَالِهِ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ كَزِنَا الْمُحْصَنِ وَكَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارِبَةِ (وَيَمْلِكُ) مُرْتَدٌّ (بِتَمْلِيكٍ) مِنْ هِبَةٍ وَاحْتِشَاشٍ وَصَيْدٍ وَشِرَاءٍ وَإِيجَارِ نَفْسِهِ إجَارَةٍ خَاصَّةً أَوْ مُشْتَرَكَةً لِأَنَّ عَدَمَ عِصْمَتِهِ لَا يُنَافِي صِحَّةَ ذَلِكَ كَالْحَرْبِيِّ. (وَيُمْنَعُ) مُرْتَدٌّ (التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً) كَبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَوَقْفٍ وَإِجَارَةٍ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ كَمَالِ الْمُفْلِسِ (لَا) إنْ تَصَرَّفَ (بِوَكَالَةٍ عَنْ غَيْرِهِ) ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَأُرُوشُ جِنَايَاتِهِ، وَلَوْ جَنَاهَا بِدَارِ حَرْبٍ أَوْ فِي فِئَةٍ مُرْتَدَّةٍ مُمْتَنِعَةٍ) لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ تَحْتَ حُكْمِنَا بِخِلَافِ الْبُغَاةِ (أَوْ) كَانَ الْمُرْتَدُّ (قَتَلَ) إنْسَانًا (خَطَأً) وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ وَكَذَا شِبْهُ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَةَ لَهُ.
قَالَ الْقَاضِي: تُؤْخَذُ مِنْهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ كَمَا كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْ عَاقِلَةٍ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أُخِذَتْ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ.
تَنْبِيهٌ:
وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ؛ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى النِّكَاحِ كَنِكَاحِ الْكَافِرِ مُسْلِمَةً، أَوْ زُوِّجَ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ، أَوْ زُوِّجَ أَمَتَهُ؛ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ مَوْقُوفًا، وَلِزَوَالِ وِلَايَتِهِ بِالرِّدَّةِ. (وَيُنْفَقُ) مِنْ مَالِ الْمُرْتَدِّ (عَلَيْهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ) لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ شَرْعًا كَالدَّيْنِ (فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ) فِي مَالِهِ، (وَإِلَّا) يُسْلَمُ بِأَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ مُرْتَدًّا (صَارَ مَالُهُ فَيْئًا مِنْ حِينِ مَوْتِهِ مُرْتَدًّا) لِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَبَطَلَ تَصَرُّفُهُ الَّذِي كَانَ تَصَرَّفَهُ فِي رِدَّتِهِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ بِقَطْعِ ثَوَابِهِ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ. (وَإِنْ لَحِقَ) مُرْتَدٌّ (بِدَارِ حَرْبٍ فَهُوَ وَمَا مَعَهُ) مِنْ مَالٍ (كَحَرْبِيٍّ) يُبَاحُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ، وَأَخْذُ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ؛ دَفْعًا لِفَسَادِهِ، وَلِزَوَالِ الْعَاصِمِ لَهُ وَهُوَ دَارُ الْإِسْلَامِ (وَأَمَّا مَا بِدَارِنَا) مِنْ مَالٍ (فَهُوَ فَيْءٌ مِنْ حِينِ مَوْتِهِ) وَمَا دَامَ حَيًّا فَمِلْكُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حِلَّ دَمِهِ لَا يُوجِبُ تَوْرِيثَ مَالِهِ كَالْحَرْبِيِّ الْأَصْلِيِّ (فَإِنْ طَالَ) زَمَنُ لُحُوقِهِ بِدَارِ حَرْبٍ، وَتَعَذَّرَ قَتْلُهُ (فَعَلَ حَاكِمٌ) فِي مَالِهِ مَا يَرَى (الْحَظَّ) وَالْمَصْلَحَةَ (مِنْ بَيْعِ نَحْوِ حَيَوَانِهِ) الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى نَفَقَةٍ (أَوْ إجَارَتِهِ) إنْ أَمْكَنَ بَقَاؤُهُ لِوِلَايَتِهِ الْعَامَّةِ، وَمُكَاتَبُهُ يُؤَدِّي إلَى الْحَاكِمِ وَيُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ لَوْ أَدَّى إلَيْهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ. (وَلَوْ ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ، وَجَرَى فِيهِ حُكْمُهُمْ)؛ أَيْ: الْمُرْتَدِّينَ (ف) هُمْ كَأَهْلِ (دَارِ حَرْبٍ يُغْنَمُ مَالُهُمْ وَ) يَجُوزُ اسْتِرْقَاقٌ (حَدَثَ مِنْهُمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ) وَعَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ رُبَّمَا أَغْرَى أَمْثَالَهُمْ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَقَاتَلَ الصِّدِّيقُ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ وَإِذَا قَاتَلَهُمْ قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَيُقْتَلُ مُدَبَّرُهُمْ، وَتُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ.
فَائِدَةٌ:
يَجُوزُ إقْرَارُ مَنْ حَدَثَ مِنْ جِزْيَة إذَا كَانَ عَلَى دِينِ مَنْ يُقَرُّ بِهَا كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس، وَإِلَّا لَمْ يُقَرَّ كَمَا فِي الدُّرُوزِ والتيامنة وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَلَا يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدِّ رِقٌّ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَقَامَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. (وَيُؤْخَذُ مُرْتَدٌّ بِحَدٍّ)؛ أَيْ: مَا يُوجِبُهُ كَزِنًا وَقَذْفٍ وَسَرِقَةٍ (أَتَاهُ فِي رِدَّتِهِ) وَإِنْ أَسْلَمَ نَصًّا؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُزِيدُهُ إلَّا تَغْلِيظًا. (وَلَا) يُؤْخَذُ مُرْتَدٌّ (بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ) أَيْ: زَمَنَ الرِّدَّةِ (مِنْ عِبَادَةٍ) كَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَلَمْ يَأْمُرْ الصِّدِّيقُ الْمُرْتَدِّينَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُمْ وَكَالْحَرْبِيِّ. (وَإِنْ لَحِقَ زَوْجَانِ مُرْتَدَّانِ بِدَارِ حَرْبٍ؛ لَمْ يُسْتَرَقَّا) وَلَا أَحَدُهُمَا (لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدِّ رِقٌّ بِحَالٍ) بَلْ يُقْتَلُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ. (وَلَا) يُسْتَرَقُّ (مَنْ وُلِدَ لَهُمَا) أَيْ: الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ رِدَّةٍ إذَا ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِدَارِ حَرْبٍ (أَوْ)؛ أَيْ: وَلَا يُسْتَرَقُّ (حَمْلٌ) مِنْهُمَا حَمَلَتْ بِهِ (قَبْلَ رِدَّةٍ) لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَلَا يَتْبَعُهُمَا فِي الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو، فَقَدْ تَبِعُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يَتْبَعُونَهُمْ فِي الرِّدَّةِ. (وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ)؛ أَيْ: مِنْ أَوْلَادِهِمْ الَّذِينَ وُلِدُوا، أَوْ حُمِلَ بِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ (قُتِلَ) بَعْدَ بُلُوغِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ؛ لِخَبَرِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ) الْوَلَدِ (الْحَادِثِ فِيهَا) أَيْ: رِدَّةِ زَوْجَيْنِ لَحِقَا بِدَارِ حَرْبٍ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ وُلِدَ بَيْنَ كَافِرَيْنِ وَلَيْسَ بِمُرْتَدٍّ نَصًّا (وَ) يَجُوزُ (إقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ) إذَا كَانَ كِتَابِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا (بِجِزْيَةٍ) كَأَوْلَادِ الْحَرْبِيِّينَ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي جَوَازِ الِاسْتِرْقَاقِ. فَصْلٌ فِي السِّحْرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يَحْرُمُ تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَفِعْلُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَذَى (وَالسِّحْرُ كَبِيرَةٌ) مِنْ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ، وَهُوَ عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلَامٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ فَاعِلُهُ أَوْ يَكْتُبُهُ أَوْ يَعْمَلُ شَيْئًا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ أَوْ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لَهُ (وَلَهُ حَقِيقَةٌ) فَمِنْهُ (مَا يَقْتُلُ وَ) مِنْهُ مَا (يُمْرِضُ وَمِنْهُ) مَا (يَأْخُذُ الرَّجُلُ عَنْ زَوْجَتِهِ فَيَمْنَعُهُ وَطْأَهَا وَ) مِنْهُ مَا (يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَيُبَغِّضُ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ، أَوْ يُحَبِّبُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وَمَا كَانَ مِثْلُ فِعْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ حِينَ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ- بِضَمِّ الْمِيمِ فِيهِمَا- مَا يَسْقُطُ مِنْ الشَّعْرِ عِنْدَ مَشْطِهِ. رَوَتْ عَائِشَةُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى إنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ»
(فَسَاحِرٌ يَرْكَبُ الْمِكْنَسَةَ فَتَسِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَدَّعِي أَنْ الْكَوَاكِبَ تُخَاطِبُهُ كَافِرٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وَقَوْلِهِ {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}؛ أَيْ: لَا تَتَعَلَّمْهُ فَتَكْفُرْ بِذَلِكَ (كَمُعْتَقِدِ حِلِّهِ) لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ؛ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَ(لَا) يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ (مَنْ يُسْحِرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ وَسَقْيِ شَيْءٍ يَضُرُّ) لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعِصْمَةُ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُزِيلُهَا (وَيُعَزَّرُ) سَاحِرٌ بِذَلِكَ (بَلِيغًا) لِيَنْكَفَّ هُوَ وَمَنْ مِثْلُهُ (بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَتْلَ) عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً (وَقِيلَ) لَهُ تَعْزِيرُهُ (بِالْقَتْلِ) وَيُقْتَلُ السَّاحِرُ إنْ كَانَ مُسْلِمًا بِالسَّيْفِ؛ لِمَا رَوَى جُنْدُبٌ مَرْفُوعًا، قَالَ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» رَوَاه التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ عَنْ جُنْدُبٍ مَوْقُوفٌ وَعَنْ بَجَالَةَ بْنِ عَبْدٍ قَالَ: كُنْت كَاتِبًا لِجُزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فَأَتَانَا كِتَابُ مُعَاوِيَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: أَنْ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَسَعِيدٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَةَ سَوَاحِرَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَقَتَلَتْ حَفْصَةُ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا. رَوَاهُ مَالِكٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ. (وَلَا) يَكْفُرُ (مَنْ يُعَزِّمُ عَلَى الْجِنِّ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُهَا وَتُطِيعُهُ) وَلَا يُقْتَلُ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَى قَتْلِهِ بِالسِّحْرِ؛ وَيُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا دُونَ الْقَتْلِ، لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً عَظِيمَةً. (وَلَا يَكْفُرُ كَاهِنٌ)؛ أَيْ: مَنْ (لَهُ رَئِيٌّ مِنْ الْجِنِّ يَأْتِيه بِالْأَخْبَارِ، وَلَا عَرَّافٌ وَهُوَ الْخَرَّاصُ، وَلَا مُنَجِّمٌ يَسْتَدِلُّ بِنَظَرِهِ فِي النُّجُومِ عَلَى الْحَوَادِثِ، فَإِنْ أَوْهَمَ قَوْمًا أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ؛ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: التَّنْجِيمُ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ مِنْ السِّحْرِ وَيَحْرُمُ إجْمَاعًا؛ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَدْفَعُ عَنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ بِبَرَكَتِهِ مَا زَعَمُوا أَنَّ الْأَفْلَاكَ تُوجِبُهُ، وَأَنَّ لَهُمْ مِنْ ثَوَابِ الدَّارَيْنِ مَا لَا تَقْوَى الْأَفْلَاكُ أَنْ تَجْلُبَهُ. (وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرٌ كِتَابِيٌّ نَصًّا وَنَحْوُهُ) كَمَجُوسِيٍّ إلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِسِحْرٍ يَقْتُلُ غَالِبًا؛ فَيُقْتَلُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَلِأَنَّ كُفْرَهُ أَعْظَمُ مِنْ سِحْرِهِ، وَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَالْأَخْبَارُ فِي سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَفَرَ بِسِحْرِهِ. (وَلَا) يَكْفُرُ (مُشَعْبِذٌ وَ) لَا (قَائِلَ بِزَجْرِ طَيْرٍ وَلَا ضَارِبٌ بِحَصَى وَشَعِيرٍ وَقِدَاحٍ)؛ أَيْ: سِهَامٍ. زَادَ فِي الرِّعَايَةِ وَالنَّظَرُ فِي أَلْوَاحِ الْأَكْتَافِ (إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ إبَاحَتَهُ)؛ أَيْ: فَعَلَ مَا سَبَقَ (وَ) لَمْ يَعْتَقِدْ (أَنَّهُ يَعْلَمُ بِهِ الْأُمُورَ الْمُغَيَّبَةَ، وَيُعَزَّرُ) لِفِعْلِهِ مَعْصِيَةً، وَيُكَفُّ عَنْهُ، (وَإِلَّا) بِأَنْ اعْتَقَدَ إبَاحَتَهُ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ بِهِ الْأُمُورَ الْمُغَيَّبَةَ (كَفَرَ) فَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. (وَيَحْرُمُ طَلْسَمٌ وَحِرْزٌ وَرُقْيَةٌ) وَعَزِيمَةٌ (بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ) إنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبًّا وَكُفْرًا (وَ) وَكَذَا تَحْرُمُ (رُقْيَةٌ بِاسْمِ كَوْكَبٍ وَمَا وُضِعَ عَلَى نَجْمٍ مِنْ صُورَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. ) وَفِي نُسْخَةٍ (قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (إنَّ رُقَى الْبَخُورِ، وَرُقَاهُ- يَعْنِي بِاسْمِ كَوْكَبٍ- هُوَ دِينُ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ) انْتَهَى.
(وَيَجُوزُ الْحَلُّ)؛ أَيْ؛ حَلُّ السِّحْرِ بِالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالْأَقْسَامِ وَالْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَيَجُوزُ حَلُّهُ أَيْضًا (بِسِحْرٍ ضَرُورَةً)؛ أَيْ: لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي الْحَلِّ وَهُوَ إلَى الْجَوَازِ أَمْيَلُ، وَسَأَلْتُ مُهَنَّا عَمَّنْ تَأْتِيه مَسْحُورَةٌ فَيُطْلِقُهُ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ؛ قَالَ الْخَلَّالُ: إنَّمَا كُرِهَ فِعَالُهُ وَلَا يَرَى بِهِ بَأْسًا كَمَا بَيَّنَهُ مُهَنَّا، وَهَذَا مِنْ الضَّرُورَةِ الَّتِي تُبِيحُ فِعْلَهَا، وَالْمَذْهَبُ جَوَازُهُ ضَرُورَةً (وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ وَمِنْ السِّحْرِ السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالْإِفْشَاءُ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ غَرِيبٌ) وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَقْصِدُ الْأَذَى بِكَلَامِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ أَشْبَهَ السِّحْرَ، وَلِهَذَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ وَالْعُرْفِ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ، وَيَنْتُجُ مَا يَفْعَلُهُ السِّحْرُ أَوْ أَكْثَرَ فَيُعْطَى حُكْمَهُ سَوِيَّةً بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ أَوْ الْمُتَقَارِبَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا إنْ قُلْنَا يَقْتُلُ الْآمِرُ بِالْقَتْلِ عَلَى رِوَايَةٍ فَهُنَا أَوْلَى. (فُرُوعٌ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ) فِي النَّارِ نَصًّا (وَمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ مَجْنُونًا مَعَهُمْ فِي النَّارِ) تَبَعًا لَهُمْ، وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَبِمَوْتِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا بِدَارِنَا، بِخِلَافِ مَنْ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ، وَيُقَسَّمُ لِلطِّفْلِ أَوْ الْمُمَيِّزِ الْمِيرَاثُ مِنْ أَبِيهِ الْكَافِرِ أَوْ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ فَلَا يَرِثُ مِنْ أَبِيهِ الْكَافِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ. وَلَوْ عُدِمَ الْأَبَوَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا بِلَا مَوْتٍ كَزِنَا ذِمِّيَّةٍ وَلَوْ بِكَافِرٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ اشْتِبَاهِ وَلَدِ مُسْلِمٍ بِوَلَدِ كَافِرٍ؛ فَمُسْلِمٌ نَصًّا (قَالَ الْقَاضِي هُوَ) أَيْ: كَوْنُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ مَجْنُونًا مَعَهُمْ فِي النَّارِ (مَنْصُوصُ) الْإِمَامِ (أَحْمَدَ) وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ (قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ. (غَلِطَ الْقَاضِي عَلَى) الْإِمَامِ أَحْمَدَ (بَلْ يُقَالُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) فَلَا يُحْكَمُ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ لَا بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ (وَهُوَ حَسَنٌ)؛ أَيْ: قَوْلُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ (وَعَنْهُ) أَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ (الْوَقْفُ) وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا فِي الْمُغْنِي ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ (وَ) اخْتَارَ (الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (تَكْلِيفَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) فَقَالَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ. فَمَنْ أَطَاعَ مِنْهُمْ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ، وَقَالَ أَيْضًا: أَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ فِيهِمْ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ سُئِلَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ». (وَمَنْ وُلِدَ أَعْمَى أَبْكَمَ أَصَمَّ) وَصَارَ رَجُلًا (فـَ) هُوَ (مَعَ أَبَوَيْهِ كَافِرَيْنِ أَوْ مُسْلِمَيْنِ وَلَوْ) كَانَا كَافِرَيْنِ ثُمَّ (أَسْلَمَا بَعْدَ مَا بَلَغَ) قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ مَعَهُمَا؛ وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَيَتَوَجَّهُ مِثْلُهُمَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَقَالَهُ شَيْخُنَا. وَذُكِرَ فِي الْفُنُونِ عَنْ أَصْحَابِنَا لَا يُعَاقَبُ، وَفِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِ كَذَلِكَ (وَذَكَرَ جَمْعٌ) مِنْ أَصْحَابِنَا (أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا تَجِبُ عَقْلًا) خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهَا عَقْلًا، قَالُوا: لِأَنَّهَا دَافِعَةٌ لِلضَّرَرِ الْمَظْنُونِ وَهُوَ خَوْفُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ (وَإِنَّمَا تَجِبُ) مَعْرِفَتُهُ تَعَالَى (بِالشَّرْعِ) نَصًّا (وَهُوَ بِعْثَةُ الرُّسُلِ) صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى مَعْرِفَةُ وُجُودِ ذَاتِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، دُونَ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَقْلًا لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الْحَقَائِقِ، وَتَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ شَرْعًا، وَالْعَقْلُ آلَةُ الْإِدْرَاكِ، فَبِهِ يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ. وَأَوَّلُ نِعَمِ اللَّهِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَأَعْظَمُهَا وَأَنْفَعُهَا أَنْ أَقْدَرَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَوَّلُ نِعَمِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْحَيَاةُ الْعَرِيَّةُ عَنْ ضَرَرٍ. إذَا تَقَرَّرَ هَذَا (فَلَوْ مَاتَ الْإِنْسَانُ قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ: قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُ الدَّعْوَةُ (لَمْ يُقْطَعْ عَلَيْهِ بِالنَّارِ) بَلْ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: لَا يُعَاقَبُ.
قَالَ فِي الْفُنُونِ: وَإِذَا مَنَعَ حَائِلُ الْبُعْدِ شُرُوطَ التَّكْلِيفِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ فِيمَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا أَوْ وُلِدَ أَعْمَى أَبْكَمَ أَصَمَّ؛ لِعَدَمِ جَوَازِ إرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ بِالشَّرْعِ (لِآيَةِ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا})؛ أَيْ: لَا يُعَذَّبُ فِيمَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ إلَّا بِقِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَسْمَعْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا؛ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قِصَّةُ أَهْلِ قُبَاءَ، حِينَ اسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوا. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِ الصَّلَاةِ؛ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى النَّاسَ يُصَلُّونَ فِي الْمَسَاجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَذَلِكَ دُعَاءٌ إلَيْهِمَا. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ. (وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ) تَعَالَى (أَوَّلُ وَاجِبٍ لِنَفْسِهِ، وَيَجِبُ قَبْلَهَا) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (النَّظَرُ) فِي الْوُجُودِ وَالْمَوْجُودِ، وَوُجُوبُ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ وَلَا يُحَرِّمُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ (لِتَوَقُّفِهَا)؛ أَيْ: الْمَعْرِفَةِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى النَّظَرِ (فَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ لِغَيْرِهِ، وَالْمُخْتَارُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ) قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ (وَغَيْرُهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَتَيْنِ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَهَا) أَيْ الْمَعْرِفَةَ (قَبْلَهُمَا) أَيْ: قَبْلَ الشَّهَادَتَيْنِ.